القرار المتعلق بدائرة "طنجة – أصيلة" فيه خرق وعوار ولا يمكن تفعيله بمرسوم
معالجتنا لقرار المجلس الدستوري المتعلق بإلغاء ثلاثة مقاعد نيابية بدائرة "طنجة – أصيلة"، ستكون في إطار التحليل الأكاديمي الموضوعي، حيث الهدف والقصد، بداية ونهاية، هو بيان الحكم السليم لما يقرره القانون بشأن الإلغاء الذي قضى به أعضاء المجلس الدستوري، بحجة ظهور صومعة مسجد في منشور انتخابي بما يشكل ممارسة لا يجيزها القانون.
وتحليلنا للقرار رقم 856-12 من ناحية فحواه وأثره، سيكون عبر ثلاثة محاور مرتبة على النحو التالي :
المحور الأول : الإطار القانوني للمنازعات الانتخابية وحدود صلاحيات المجلس الدستوري
المنازعات الانتخابية بحصر المعنى، هي تلك التي تظهر إلى الوجود بعد إجراء الانتخابات التشريعية العامة، كما تظهر كلما أجريت انتخابات تشريعية جزئية.
وأمد الطعن في نتيجة الاقتراع محدد بمقتضى المادة 29 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الدستوري، في خمسة عشر يوما، يبدأ من تاريخ الإعلان الرسمي عن نتيجة الاقتراع، بحيث إذا قدم الطعن قبل إعلان النتائج، قضى المجلس الدستوري بعدم قبول عريضة الطعن؛ وينتهي بانصرام الأمد، بحيث لا يعتد بالطعن حتى ولو كان مستندا على أسباب بالغة الأهمية.
والذين يحق لهم الطعن أمام المجلس الدستوري بخصوص القرارات التي تتخذها مكاتب التصويت والمكاتب المركزية ولجان الإحصاء، هم الأطراف الذين حددهم القانون التنظيمي رقم 27-11 المتعلق بمجلس النواب في مادته 88 التي تقرر التالي :
"يمكن الطعن... من لدن الناخبين والمترشحين المعنيين بالأمر أمام المحكمة الدستورية (الفقرة الأولى). يخول كذلك للعمال ولكاتب اللجنة الوطنية للإحصاء الحق في تقديم الطعن، كل فيما يخصه (الفقرة الثانية)".
وتنص الفقرة الأخيرة من المادة 87 من ذات القانون التنظيمي على ما يلي : "لا يمكن الطعن في حكم المحكمة الابتدائية أو المنازعة في قرار قبول الترشيح إلا أمام المحكمة الدستورية بمناسبة الطعن في نتيجة الانتخاب".
وباستيفاء عريضة الطعن لشروطها وفق الضوابط المحددة في المادة 30 و31 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الدستوري، فإن هذا الأخير لا يتمتع بسلطات مطلقة من كل قيد، بل هو ملزم بالتقيد بالأحكام والمقتضيات المنصوص عليها في المادة 34 و35 من القانون التنظيمي 8-98 المعدل للقانون التنظيمي رقم 29-93 الخاص بالمجلس الدستوري.
فالمادة 34 في فقرتها الثانية تقرر التالي : "وللمجلس أن يقضي بعدم قبول العرائض أو برفضها دون إجراء تحقيق سابق في شأنها إذا كانت غير مقبولة أو كانت لا تتضمن سوى مآخذ يظهر جليا أنه لم يكن لها تأثير في نتائج الانتخاب".
أما المادة 35 فتنص على ما يلي : "للمجلس الدستوري، إذا قضى لفائدة الطاعن، إما أن يلغي الانتخاب المطعون فيه، وإما أن يصحح النتائج الحسابية التي أعلنتها لجنة الإحصاء ويعلن المرشح الفائز بصورة قانونية".
والذي يلاحظ على هذه المادة في جانبها المتعلق بسلطة المجلس في إلغاء الانتخاب المطعون فيه، هو أن اعتماد المجلس على هذه المادة بمفردها دون ربطها بإحدى المادتين التي لها علاقة بذات الموضوع، أدى إلى توقيع أعضاء المجلس الدستوري على قرارات مشوبة بعوار قانوني. فإذا كان الأمر لا تثريب عليه في ظل القانون التنظيمي رقم 31-97 المتعلق بمجلس النواب قبل تعديله، فإن الأمر لم يعد كذلك بعد التعديل الذي طرأ عليه بمقتضى القانون التنظيمي رقم 06-02 والقانون التنظيمي رقم 22-06؛ وكذلك الوضع في ظل القانون التنظيمي 27-11 الصادر في إطار الدستور الجديد لسنة 2011.
لذلك كله، فإن المجلس الدستوري كان ملزما منذ القانون التنظيمي 06-02، بأن يعلن في المجال الذي نحن بصدده على إلغاء نتيجة الاقتراع وإبطال انتخاب نائب أو عدة نواب، ثم تقرير ما يجب اتباعه في نطاق المادة 90 و91 من القانون التنظيمي رقم 27-11 المتعلق بمجلس النواب، مادام أعضاء المجلس الدستوري قرروا دستورية المادة 90 و91 كما فعلوا في السابق بشأن المادة 84 و84 المكررة في نطاق القانون التنظيمي 22-06 المعدل لما سبقه.
ذلك أن إغفال القرار عن تحديد الأثر المترتب عن الإلغاء أو الإعلان عن شغور المقعد، قد يعرض الجهة المختصة بتفعيل القرار إلى الوقوع في الخطأ. والقرار رقم 856-12 يعتبر خير مثال لما نحن بصدده، جراء تضمنه لمنطقة ظل قاتمة لا تتسق مع ما يفرضه ويستلزمه القانون التنظيمي رقم 27-11 الجاري العمل بمقتضياته، وهو ما سنبينه لاحقا.
المحور الثاني : القرار فيه خرق وعوار من الناحية القانونية والدستورية
بعد إعلان نتائج الانتخابات التشريعية في دائرة "طنجة – أصيلة" (عمالة طنجة – أصيلة)، وفوز كل من السيد محمد نجيب بوليف وعبد الله بروحو ومحمد الدياز وسعيدة شاكر مطالسي وفؤاد العماري، تقدم السيد عادل الدفوف بعريضة طعن أمام المجلس الدستوري، يتغيى منها إلغاء انتخاب الفائزين الثلاثة المنضوين تحت لواء حزب العدالة والتنمية.
والطاعن استند في عريضته على أن المطعون في انتخابهم قاموا باستغلال المساجد في الحملة الانتخابية من خلال تثبيت صومعة مسجد في منشورهم الانتخابي، مما يشكل مخالفة للدستور وللمادة 118 من القانون رقم 57-11 المتعلق باستعمال وسائل الاتصال السمعي البصري العمومية خلال الحملة الانتخابية.
وقد ساير أعضاء المجلس الدستوري ادعاءات الطاعن وما ساقه من حجج لتدعيم موقفه وتحقيق ما يرنو إليه. وأكدوا أن القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب منع في المادة 36 منه القيام بالحملة الانتخابية في أماكن العبادة، كما أوجبت المادة 118 من القانون 57-11 السالف الذكر، ألا تتضمن برامج الفترة الانتخابية والبرامج المعدة للحملة الانتخابية، بأي شكل من الأشكال، مواد من شأنها، على وجه الخصوص، الإخلال بثوابت الأمة كما هي محددة في الدستور، أو المساس بالنظام العام، أو التحريض على العنصرية أو الكراهية أو العنف، أو استعمال الرموز الوطنية، وكذا الظهور في أماكن العبادة أو أي استعمال كلي أو جزئي لهذه الأماكن.
ولم يغب عن أعضاء المجلس الدستوري أهمية التذكير بأنه رغم ورود الممارسات المحظورة في القانون المتعلق باستعمال وسائل الاتصال السمعي البصري خلال الحملة الانتخابية، فإن هذه الممارسات المعيبة، حظرها يسري على كافة وسائل الاتصال المستعملة في الحملة الانتخابية.
وحيث إنه يتبين –كما يقول أعضاء المجلس الدستوري- من فحص المنشور الانتخابي المستعمل من طرف المطعون في انتخابهم خلال الحملة الانتخابية، الذي هو عبارة عن صورة تركيبية من اختيارهم، تضمنت صومعة مسجد، وبجانبها رمز لائحتهم الانتخابية والصور الشخصية لجميع المرشحين بهذه اللائحة، أنه ينطوي على استعمال جزئي لأماكن العبادة.
وحيث إن هذه الممارسة –كما يرى أعضاء المجلس- التي شابت الحملة الانتخابية، لا يقرها القانون؛ فإنه يتعين تبعا لذلك، التصريح بإلغاء انتخاب كل من السادة : عبد اللطيف بروحو ومحمد الدياز وكذا العضو الذي حل محل السيد محمد نجيب بوليف، تطبيقا لقرار المجلس الدستوري رقم 827-11.
ومن كل سبق، يتجلى بشكل واضح أن أعضاء المجلس الدستوري ألغوا لحزب العدالة والتنمية، ثلاثة مقاعد فازوا بها في دائرة "طنجة – أصيلة"، بدعوى أن منشورا انتخابيا يتضمن مخالفة للمادة 118 من القانون رقم 57-11 علاوة على المادة 36 من القانون التنظيمي رقم 27-11، مما يستوجب إلغاء انتخاب المطعون في انتخابهم.
ورغم أن قرار المجلس الدستوري حتى ولو كان معيبا وواضح الخطل، فإن ما قضى به يكون ملزما للجميع تبعا للفقرة الثانية من الفصل 134 من الدستور التي تنص على التالي : "لا تقبل قرارات المحكمة الدستورية أي طريق من طرق الطعن، وتلزم كل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية". بيد أن ما انتهى إليه أعضاء المجلس الدستوري لا يمكن التسليم به من ناحية التحليل القانوني والتأصيل الفقهي، لما في منطوق حكمهم من وهن وضعف، لوقوعهم في سرف القول وحيدتهم عن الفهم السليم لما ينص عليه القانون.
فإذا وضعنا المادة 36 من القانون التنظيمي رقم 27-11 على طاولة البحث القانوني والتأصيل الدستوري، نجد أن الفقرة الأولى من ذات المادة هي وحدها التي لها علاقة بما نحن بصدده، وهي تنص على التالي : "يمنع القيام بالحملة الانتخابية في أماكن العبادة أو في أماكن أو مؤسسات مخصصة للتعليم أو التكوين المهني أو داخل الإدارات العمومية". بما يعني أن الحظر في إطار هذه الفقرة وفي نطاق التجريم الذي نحن بصدده ينحصر فقط في "القيام بالحملة الانتخابية في أماكن العبادة"، من غير أن يكون لهذا المنع أو الحظر علاقة لا من قريب أو بعيد، بتثبيت صومعة مسجد في المنشور الانتخابي. لأن القيام بالحملة الانتخابية في أماكن العبادة شيء، وتثبيت صورة لصومعة في منشور انتخابي شيء آخر، وشتان بين الأمرين.
أما عن القانون 57-11 المتعلق باللوائح الانتخابية العامة وعمليات الاستفتاء ووسائل الاتصال السمعي البصري العمومية خلال الحملات الانتخابية والاستفتائية، فتنص الفقرة الثانية من المادة 118 على ما يلي : "كما يجب ألا تتضمن هذه البرامج : 1 – استعمال الرموز الوطنية. 2 – الاستعمال الجزئي أو الكلي للنشيد الوطني. 3 – الظهور في أماكن العبادة أو أي استعمال كلي أو جزئي لهذه الأماكن. 4 – الظهور بشكل واضح داخل المقرات الرسمية، سواء كانت محلية أو جهوية أو وطنية. 5 – إظهار عناصر أو أماكن أو مقرات يمكن أن تشكل علامة تجارية".
والحظر هنا أيضا يقتصر على ما ورد في البند الثالث من الفقرة الثانية من المادة 118 من القانون 57-11. علما بأن ما ورد في هذا البند الثالث يتعلق بالظهور في أماكن العبادة وكذا الاستعمال الكلي أو الجزئي لهذه الأماكن، بحيث لا نجد علاقة وطيدة بين هذا الظهور في أماكن العبادة أو استعمال هذه الأماكن، وبين تثبيت صورة صومعة في منشور انتخابي. فالجريمة في إطار هذا البند عناصرها غير مكتملة من حيث ركنها المادي، لأن الظهور وكذا استعمال أماكن العبادة يحتمل أكثر من تفسير وتأويل، كما أنه يصعب اعتبار الصورة التركيبية لظهور صومعة في إطارها، على أنه ينطوي على استعمال جزئي لأماكن العبادة.
وحتى إذا افترضنا جدلا أن الظهور والاستعمال الكلي أو الجزئي المنصوص عليه في المادة 118 يشكل جريمة في المجال الانتخابي، فإن هذا الافتراض لا يجوز ولا يستقيم أمره لوجود المادة 36 من القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب.
ذلك أن الحظر المتعلق بعدم جواز القيام بالحملة الانتخابية في أماكن العبادة، ورد في قانون تنظيمي (المادة 36)، في حين أن عدم جواز الظهور في أماكن العبادة أو استعمال هذه الأخيرة كليا أو جزئيا ورد في قانون عادي (المادة 118)؛ ومادام القانون التنظيمي أعلى منزلة ومكانة من القانون العادي، فإنه وقت قيام التعارض بين قانونين متفاوتين في الدرجة والمرتبة، يتعين الأخذ بالقانون الأعلى منزلة وإهمال الأدنى مرتبة. بالإضافة إلى أن القانون التنظيمي رقم 27-11 المتعلق بمجلس النواب هو الذي يتضمن القانون الجنائي الخاص بالانتخابات، حيث أفرد المشرع لهذا الجانب الباب السادس بعنوان : "تحديد المخالفات المرتكبة بمناسبة الانتخابات والعقوبات المقررة لها"، مخصصا لهذا الباب المواد من 38 إلى 69، أي ما يشكل ثلث مواد القانون التنظيمي باعتبار أن الباب الثاني عشر المتضمن لأربع مواد (97-100) يتعلق بأحكام انتقالية وختامية.
وحيث إن الأمر في المجال الذي نحن بصدده يتعلق بالأعمال والممارسات المحظورة، التي يجرمها القانون ويعاقب عليها، فإن القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب هو الأولى والأجدر بالأخذ به والتقيد بأحكامه؛ فهو الذي حدد الفعل المحظور في المادة 36 ورتب له الجزاء في الفقرة الثانية من المادة 42. ومن هنا كان على أعضاء المجلس الدستوري الالتزام بالتفسير الضيق المتسق مع التأويل اللغوي والقانوني، ليدرأوا عن أنفسهم التأويل الواسع الذي يلتف حول فحوى القاعدة القانونية، بما يشكل افتئاتا على مبدأ قانونية التجريم والعقاب الذي شُرِع لضمان الحقوق وكفالة الحريات وخاصة في الميدان الجنائي. لأن المحكمة في إطار مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات، يتوجب عليها مراعاة القانون الأعلى منزلة المستوفي لجميع شروطه وعناصره (المادة 36 و42)، وعدم تكملة النص الجنائي إذا كان ناقصا، وعدم جواز التوسع في تأويل النصوص في الميدان الجنائي وكذلك عدم اللجوء إلى القياس. فكل غموض أو إبهام في النص الجنائي، فإن المبدأ في هذا المضمار هو وجوب تقيد المحكمة بتأويل الشك والغموض لصالح المتهم سواء كان الشك متعلقا بالوقائع أم كان متعلقا بالقانون؛ وقد نص الدستور على عدة مبادئ في المجال الذي نحن بصدده : الفصل 6 - الفقرة الرابعة، والفصل 23 - الفقرة الرابعة، والفصل 71 - البند السابع من الفقرة الأولى، والفصل 119. وأعضاء المجلس الدستوري قبل تسلم مقاليد مناصبهم، يؤدون القسم بين يدي الملك على أن يقوموا بالمهام المسندة إليهم بإخلاص وأمانة ويمارسوها بكامل النزاهة في ظل احترام الدستور( المادة 14 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الدستوري).
والدليل على كون القانون التنظيمي أعلى منزلة من القانون، فإنه بالرغم من كون هذه التراتبية لا تحتاج إألى برهان، فإننا مع ذلك نسوق الحجة من المجلس الدستوري نفسه، وذلك من خلال قراره رقم 207-98، حيث قضى بشكل غير مباشر بعدم دستورية المادة 289 من مدونة الانتخابات، باعتبار أن تحديد سقف المصاريف الانتخابية بخصوص الانتخابات التشريعية يندرج وينضوي في اختصاص القانون التنظيمي. ومادام هذا الأخير لم يحدد سقفا لما يتوجب إنفاقه طيلة الحملة الانتخابية، فإن القانون (مدونة الانتخابات) لا يجوز له أن يتصدى للمسألة، ليبقى الأمر على أصله، أي الإباحة، شريطة عدم اقتراف المرشح لما يجرمه القانون الجنائي الخاص بالانتخابات التشريعية. وبتقرير المجلس الدستوري لأولوية القانون التنظيمي وعلو منزلته وتدني مرتبة القانون، فإن ما ورد في هذا الأخير وكذلك ما تمخض عنه بمقتضى مرسوم، يكون منعدم الأثر. وبهذا الذي قرره المجلس الدستوري، يصبح المرسوم الذي كان يحدد سقف المصاريف الانتخابية في 250.000 درهم لا قيمة له من الناحية القانونية ولا يعتد به.
ومن هذا الإعلاء لمنزلة القانون التنظيمي على حساب القانون العادي، والحال أن القانون التنظيمي ساكت عما يجب التصدي له، فإن هذا الإعلاء يجب أن يتقرر من باب أولى حينما يكون القانون التنظيمي قد تصدى لما يعتبر من الأفعال المحظورة الواردة على سبيل الحصر، كما هو الحال بشأن المادة 36 و42 من القانون التنظيمي رقم 27-11 المتعلق بمجلس النواب، من غير اكتراث واعتداد بما ورد في المادة 118 من القانون رقم 57-11. الأمر الذي يجعل من هذا الأخير بخصوص التجريم في ميدان الانتخابات التشريعية، كأنه غير موجود ولا قيمة له من حيث إمكانية إنتاج أي أثر قانوني، بما ينجر عن ذلك عدم قبول منطوق القرار رقم 856-12 من ناحية التقعيد القانوني والتأصيل الفقهي.
وترتيبا على ما سلف ذكره، فإنه يصعب مسايرة ما انتهى إليه أعضاء المجلس الدستوري، من حيث اعتبار ظهور صومعة في المنشور الانتخابي ينطوي على استعمال جزئي لأماكن العبادة. وكان الأجدر على أعضاء المجلس القضاء فيما يخص ما ورد في عريضة الطاعن، أن يرفضوا طلب الإلغاء، لعدم قانونية ما تم التنصيص عليه في المادة 118 من قانون 57-11، وتطبيق القانون التنظيمي رقم 27-11 في جانبه المتعلق بالمادة 36 التي جعلت الفعل المحظور محصورا في القيام بالحملة الانتخابية في أماكن العبادة. ثم ما هي العلاقة بين القيام بالحملة الانتخابية في أماكن العبادة أو الظهور فيها مع الاستعمال الكلي أو الجزئي لهذه الأماكن، وبين إظهار صورة مسجد في منشور انتخابي. ألا يوجد فرق من الناحية اللغوية بين الظهور والإظهار؟ وأخيرا، إن القانون الجنائي بصفة عامة، لا يجوز في نطاقه التوسع في تفسير أحكامه ومقتضياته، لدرجة الخروج على دلالة ألفاظه الواضحة المعنى والمبنى. ثم إن الجريمة المنصوص عليها في المادة 118 هي في واقع الحال غير محددة المعالم لما فيها من إبهام وغموض.
وصفوة القول، كان على أعضاء المجلس الدستوري الحكم بصحة الانتخابات وبأحقية الفائزين بمقاعدهم النيابية، لتبقى صومعة دائرة "طنجة – أصيلة" خالية من المثالب والعيوب. لأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال للمجلس الدستوري تحت ذريعة التفسير أن يقرر حكما يخالف ما ينص عليه القانون بشكل جلي ومحدد فيما يخص الركن المادي للجريمة.
المحور الثالث : قرار المجلس الدستوري فيـه عوار ولا يمكن تفعيله بمرسوم
إذا افترضنا أن ما ورد في القرار 856-12 لم يجانبه الصواب، باعتبار أن تثبيت صومعة مسجد في المنشور الانتخابي، يشكل جريمة في الميدان الانتخابي، نظرا لما للصومعة من تأثير عظيم على الناخبين، حتى أنهم صوتوا بكثافة على مرشحي أصحاب رمز "المصباح" الأمر الذي يسر وسهل لحزب العدالة والتنمية الحصول على ثلاثة مقاعد في دائرة "طنجة – أصيلة"؛ وهو ما يبرر إلغاء انتخاب الفائزين الثلاثة وحرمانهم من شرف تمثيلهم للأمة جراء فقدانهم لعضويتهم داخل مجلس النواب.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه بالرغم من مجاراة منطق أعضاء المجلس الدستوري، فإن العوار يظل ملازما لقرارهم، بسبب خلوه من أي بيان لمآل المقاعد الثلاثة التي أصبحت شاغرة جراء ما تولد عن ظهور الصومعة في المنشور الانتخابي.
وقد يقول قائل، إن الإشكالية تنحسم بإجراء الانتخابات الجزئية، وقد يرى آخر أن المعضلة تزول بتطبيق مسطرة الحلول أو التعويض؛ كما أنه ليس بمستغرب أن يذهب ثالث إلى أن الحل يكمن في بعث رسالة من طرف رئيس المجلس الدستوري إلى رئيس الحكومة، كما حدث بشأن القانون التنظيمي رقم 22-06، حيث ظهير إصداره شاهد على هذه السابقة (الجريدة الرسمية، عدد 5513، الصادرة بتاريخ 2 أبريل 2007).
إن الخرق الجاثم في قرار المجلس الدستوري رقم 856-12 كان في الإمكان تجنبه لو تم الربط بين المادة 35 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الدستوري وتفعيل إما المادة 90 أو 91 من القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب. ذلك أن حكم الإلغاء، ومنذ أن انتقل النظام الانتخابي المغربي من الاقتراع الفردي بالأغلبية النسبية في دورة واحدة، إلى نظام الاقتراع باللائحة وفق أسلوب التمثيل النسبي، ينجر عنه وجوب بيان مآل المقعد أو المقاعد المعلن عن شغورها من طرف المجلس الدستوري. ولهذا فإن أعضاء المجلس الدستوري كان عليهم وقت إلغاء الانتخاب المطعون فيه أن يُفعِلوا ما يترتب على الإلغاء في نطاق مقتضيات المادة 90 و91 من القانون التنظيمي رقم 27-11.
وأعضاء المجلس الدستوري لا يتحملون فحسب المسؤولية في كون قرارهم أتى معيبا من ناحية إغفال ما يجب اتخاذه وتفعيله في نطاق المادتين 90 و91، وإنما يتحملون أيضا مسؤولية ما في المادتين من تناقض وتعارض في الجانب المتعلق بالإلغاء المنصوص عليه في كل مادة على حدة.
فالمادة 90 تنص في فقرتها الأولى على انه : "إذا ألغيت جزئيا نتائج اقتراع من قبل المحكمة الدستورية وأبطل انتخاب نائب أو عدة نواب... يدعى، بقرار للسلطة المكلفة بتلقي التصريحات بالترشيح، المترشح الذي يرد اسمه مباشرة في لائحة الترشيح المعنية، بعد آخر منتخب في نفس اللائحة لشغل المقعد الشاغر...".
وتقرر المادة 91 في فقرتها الأولى ما يلي : "تباشر انتخابات جزئية في الحالات التالية : "... 4 – إذا أمرت المحكمة الدستورية بتنظيم انتخابات جديدة على إثر إبطال انتخاب نائب أو عدة نواب. 5 - ...".
والذي يلاحظ على هاتين المادتين أنه بخصوص المسألة الواحدة المتعلقة بإبطال انتخاب نائب أو عدة نواب، نجد حكمين متناقضين، أحدهما يحفظ لنفس اللائحة بالمقاعد المحصل عليها عن طريق إعمال مسطرة الحلول أو التعويض وذلك كأصل عام، في حين أن الحكم الآخر يحرم اللائحة من المقعد أو المقاعد التي نالتها جراء اللجوء إلى إجراء انتخابات جزئية. وشتان ما بين الحكمين من عدم اتساق واتفاق رغم الاتحاد في العلة، الذي يستوجب حكما واحدا؛ وكل هذا بسبب انعدام معيار للتمييز بين الوضعين.
كما أن السلطة المكلفة بتفعيل قرار المجلس الدستوري، في حالة اتجاه نيتها إلى دعوة الناخبين، بمقتضى مرسوم، إلى المشاركة في الانتخابات الجزئية تبعا للقرار القاضي بالإلغاء في دائرة "طنجة – أصيلة"، ستجد صعوبة وقت شروعها في إصدار المرسوم، جراء خلو القرار من أية إشارة إلى المادة 90 المتعلقة بمسطرة التعويض أو المادة 91 المتعلقة بالانتخابات الجزئية. ذلك أن الذي يحدد تفعيل المادة 90 أو 91 هو المجلس الدستوري، وليس رئيس الحكومة بناء على اقتراح من وزير الداخلية. ومن هنا قولنا إن القرار رقم 856-12 فيه عوار ومتعذر تفعيله من الناحية القانونية والعملية، ما عدا إذا تم اللجوء إلى تطبيق وتنزيل مقتضيات الأمر الواقع؟
وما قلناه على القرار المتعلق بدائرة "طنجة – أصيلة" يسري على قرار المجلس الدستوري رقم 855-12 الخاص بدائرة "جليز – النخيل" (عمالة مراكش)، لاتحاد العلة الموجبة للإلغاء في القرارين معا، وذلك من ناحية اتباع أعضاء المجلس الدستوري – كما هو واضح – للتأويل الواسع الذي وصل إلى تجريم فعل لا يوجد بشأنه نص واضح. بل إن القانون التنظيمي رقم 27-11 المتعلق بمجلس النواب، يعتبر خير شاهد في المضمار الذي نحن بصدده، حيث المادة 36 منه تجرم وضعية معينة ومحددة، وأعضاء المجلس الدستوري يقررون أمرا مغايرا لا علاقة له بجرم "القيام بالحملة الانتخابية في أماكن العبادة"، وهو ما سبق بيانه. والقاعدة التي تعتبر من البديهيات تقرر أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص سابق على اقتراف الفعل الإجرامي؛ كما أنه في حالة وجود نصين متعارضين، يحكمان ذات الواقعة، فإن الأسبقية في التطبيق تكون للقانون الأعلى منزلة، وهو النهج المقرر في النظام القانوني المغربي.
وفي ختام هذه المقالة، يتوجب علينا أن ننبه أعضاء المجلس الدستوري، إلى أن عددا غير قليل من القرارات التي كان لهم شرف التوقيع عليها، تحتوي على نقائص ومثالب من الناحية القانونية، ولا تستقيم مع التأصيل الفقهي السليم.
من هذه القرارات نذكر التالي :
- القرار رقم 828-12 المتعلق بالسيد عزيز أخنوش.
- القرار رقم 840-12 و844-12 اللذان في إطارهما ورد ما يلي : "وبغض النظر عن التفسير الذي يتعين إعطاؤه للفقرة الرابعة من المادة 24.. إلخ".
- القرار رقم 853-12 المتعلق باستقالة خالد أدنون، علاوة على القرار 842-12.
- القرار رقم 854-12 الخاص بالقانون التنظيمي رقم 02-12 المتعلق بالتعيين في المناصب العليا.
ومثل هذه القرارات وغيرها تتطلب دراسة مستقلة لما فيها من خطل في الرأي وسرف في القول، من غير تغول أو افتئات على ما يفرضه التحليل الموضوعي من حيدة ونزاهة.