وصف المشاركون في ندوة “القيم وتحولات المجتمع المغربي” التي احتضنها المركز العلمي العربي بالرباط أمس السبت التحولات القيمية التي يشهدها المجتمع المغربي بشديدة التعقيد . واتفق المحاضرون على الطبيعة المعقدة للتحولات الجارية، حيث أن التحديث والتجديد لا يتصارعان فقط بل يتعايشان ويستعيران من بعضهما البعض عددا من الأقنعة في إطار نوع من الترميق الذي لا يخفي اتجاه المجتمع المغربي إلى مزيد من قيم الفردانية التي تعلي من شأن الفرد، وهو مايجعل الفعل الجماعي في المغرب ضعيف الفعالية.
خليل : فردانية المجتمع المغربي
وفي هذا السياق كشف جمال خليل أستاذ السوسويولوجيا بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء أن المجتمع المغربي يظل بالرغم من كل شئ مجتمعا يتجه أكثر فأكثر نحو القيم الفردانية، لذلك فإن الفعل الجماعي سيظل أقل فعالية.وحول بعض اتجاهات القيم في المجتمع المغربي استعرض الباحث نتائج دراسة ميدانية تصدر قريبا أفادت بأن المجتمع المغربي يتجه أكثر نحو مزيد من الفردانية وبروز الفرد كوحدة مهمة، غير أن ذلك لا يعني نتيجة مطلقة حيث أن الدراسة اثبثت أن “ المغربي” يمتح من مختلف المنظومات حسب حاجته. وأوضحت النتائج ذاتها وجود تناقض في تصورات الأفراد حيث يعتبرون أن الاختلاف السياسي والديني والثقافي حق للجميع وفي نفس الوقت يعتبرون هذا الاختلاف مهددا لوحدة المجتمع. وقال خليل أن مؤسسات تمرير القيم ظلت واضحة المعالم إلى عهد قريب حيث مؤسسة الأسرة والمدرسة وووسائل الإعلام والمحيط عناصر أساسية في هذا التمرير، لكن هذه العناصر ستعرف اختلالا بفعل دخول عناصر جديدة على خط تمرير القيم وخاصة ظهور الأنترنيت الذي مكن الناس العاديين من التحول من مجرد استهلاك المنتوجات المادية والثقافية إلى إنتاجها والمساهمة في بناء مضمونها. واعترف المحاضر بصعوبة القبض على مكامن نسق شديد التعقيد وشديد الديناميكية من قبيل نسق القيم. إنه منظومة متحركة ونظرا لتعدد مصادرالتأثير فيه ومدخلاته يصبح التكهن باتخاذ القيم هذا الاتجاه أو ذلك أمرا بالغ الصعوبة.
جنجار : رجل الدين وهاجس الأصل
وبخصوص القيم الدينية وتحولاتها، قال الباحث الأنتروبولوجي محمد الصغير جنجار أن التغيير في القيم الدينية مسلمة أساسية في علم الاجتماع وفي العلوم الإنسانية. وذكر بالمناسبة بأن عالم الاجتماع ليس من وظيفته تحديد القيم الملائمة من غيرها بل وظيفته هي دراسة وتحليل الوقائع الاجتماعية بعيدا عن الحكم عليها. وبخصوص الموضوع ذاته، اعترف المحاضر بأهمية تجاوز النظرة الخطية والقراءة من فوق للقيم لأن هذه المقاربة أثبتت خطأها. ولذلك، يقول جنجار، لا بد من العودة إلى النموذج التأويلي حيث يجب إعطاء الأهمية للمعنى الذي يعطيه الفاعل لسلوكه وللظواهر. وحول التجديد في الدين وفي القيم الدينية اعتبر جنجار أن رجل الدين وأمام التغييرالكبير الذي يشاهده يحاول دائما تغليف التجديد بالأصل وجعل الجديد يلبس أقنعة الأصل. وأضاف جنجار بأن المنظومة الدينية تتدبر عملية التجديد والتغيير من خلال الارتكاز على تصور مسبق للدين باعتباره يجسد الحاضر والماضي والمستقبل، لذلك يتوفر الدين على قدرة هائلة على امتصاص الجديد عبر تكرار الصلة بالأصل. واعتبر ذات المحاضر أن أحد البراديغمات الأساسية لفهم المجتمع المغربي واتجهات القيم لديه هو براديغم الترميق Bricologe حيث يتم استعاره هذا المعين القيمي أوذاك حسب السياقات وحسب الحاجات.
سبيلا : مكرالقيم واستعاراتها
ومن جهته قال المفكر المغربي محمد سبيلا أن قيم الحداثة والتحديث تتمحور حول نواتين أساسيتين هما نواة التمايز ونواة العقلنة. وشدد على ضرورة فهم العقلنة بما تعنيه من قدرة على التدبير الحسابي للأهداف والغايات اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. وتطرق سبيلا إلى المفعول المزدوج للاستعمار حيث ينظر إليه كأداة، لكنه ساهم بالمقابل في عملية التحديث إن على المستوى الثاقافي أو المادي للمجتمعات التي خضعت له. وخلص المحاضر إلى أن عملية التحديث عملية شمولية مست كل المناحي، لذلك فقوة القيم التحديثية مارست عنفا على البنيات التقليدية. وفي تحليله لعلاقة القيم التقليدية بالقيم الحداثية، اعتبر سبيلا أن المنظومتين لاتتصارعان فقط، بل إن العلاقة بينها قائمة على مجموعة من الأسس. إنهما يتصارعان حينا، يقول سبيلا، ويتعايشان أحيانا أخرى، ويضطران إلى قبول مجموعة من التسويات بينهما، بل إن القيم الحداثية تستعير في بعض الحالات أقنعة التقليد لاستمرار تواجدها والعكس صحيح، كما تستعير القيم التقليدية لبوس الحداثة لفرض استمراريتها وهذا ما سماه سبيلا "لعبة ماكرة للقيم".
يذكر أن المركزالعلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية مؤسسة بحثية علمية عربية تأسست بالرباط من طرف ثلة من الباحثين حيث تمكن المركز في غضون السنة الأولى من تأسيسه من تنشيط الحركية الثقافية المغربية من خلال احتضانه عددا من المحاضرات والندوات المحلية والدولية كان أبرزها سلسلة آفاق الدولة المدنية بالعالم العربي في أربع نسخ بالإضافة إلى استضافة عدد من وجوه المشهد الثقافي العربي من تونس والجزائر وسوريا وفلسطين والعراق وغيرها.