بقلم: عبدالحق الريكي
تحدثنا في مقال سابق بعنوان "محاربة الفساد، أمُّ المعارك" عن كون مواجهة الإسلاميين اليوم تتم بأدوات سياسية وإيديولوجية وتاريخية وأنه لا يتم استعمال ملفات الفساد نظرا لحداثة التجربة الحكومية للحزب الإسلامي من جهة ولغياب هذه الملفات من جهة أخرى. وأكدنا أن مقالا آخر سيتناول تحصين الوزراء الإسلاميين من الفساد وامتحان مدى قوة مرجعيتهم الإيمانية والأخلاقية في مواجهة الإغراءات وملذات الدنيا...
كلنا سمعنا وشهدنا كيف يتم أحيانا الإطاحة بأحد السياسيين من طرف أجهزة أو سلطات أو أفراد... يتم دراسة الشخص المستهدف لمعرفة نقاط ضعفه ورغباته ومشاكله... ويتم انطلاقا من ذلك تحديد الهدف... لاستمالته أو التشهير به أو إسقاطه حسب المطلوب...
أغلب الأوقات يتم استمالة شخص مزعج لجهة معينة، عبر اقتراح منصب مهم له بأجر كبير... ومن تم تكبر الطموحات وتزداد مطالب"الهانم" والأولاد وينغمس الجميع في ما لذ وطاب وينسون الفقر والجوع وصداع الرأس... الموقع الجديد والمزايا العديدة تحتم على الشخص التأقلم والتنازل عن المواقف والمطالب والمبادئ...
اليوم الإسلاميون في الحكم، لم يتم استمالتهم لهذه المواقع بل جاءوا عبر انتخابات... هل سيتم جَر بعضهم إلى ملذات الدنيا ؟ هل سنسمع يوما ما أن رئيس الحكومة سقط في غرام حسناء مثلا ؟ (وهنا لا بد أن أفتح قوس لأنني وأنا أكتب، وجدتني أتخيل الصديق القريب لرئيس الحكومة وهو يقرأ ما سلف، يضحك بما أوتي من قوة لأنه لم يستطع ولو للحظة تصور صديقه محاطا بالحسناوات... إلا في دار الآخرة...).
إذا لنترك جانبا الحسناوات وما كان يمكن لهن أن يغيرن في مواقف وقرارات رئيس الحكومة لأنه على ما يبدو لن يستطعن التقرب منه ما دام هو يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويحب الملك والوطن والشعب المغربي وكذا أمه وزوجته وأولاده وأحفاده وأصدقائه وأعضاء حزبه... لا غير...
هل يمكن أن نتصور عشق رئيس الحكومة للمال والجاه وهو الذي قرأ ما شاء الله من مرات ما كان الصحابي أبو ذر الغفاري يردده إلى أن لقي ربه: «بشر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة»... فيرتعد ويخاف رئيس الحكومة ويطالب من زوجته أن تدثره وتدعو له بالرحمة والقناعة والمغفرة إلى أن يلقى الله...
هل يمكن أن نتصور صديق رئيس الحكومة، كاتب الدولة، يلهث من أجل الظفر بإحدى الضيعات الفلاحية الكبيرة ليربي البقر والخيول ويلبس قبعة رعاع الغنم الأمريكان ويمرح ويسرح في ضيعته الجديدة التي سلمت له من أجل أن يصبح رجلا مثل الرجال الذين يوقعون ويغضون البصر والسمع عن المصائب والبلايا... وينصح صديقه رئيس الحكومة التنازل عن اختصاصاته للغير... وكذا الابتعاد عن الكلام على التماسيح والعفاريت...
يصعب التخيل أن يقع كاتب الدولة في المحظور وهو الذي ما فتئ يقرأ ما قاله الصحابي "سعيد بن عامر" حين قيل له يوما "توسع بهذا الفائض على أهلك وأصهارك"، فأجاب "ولماذا أهلي وأصهاري...؟؟ لا والله، ما أنا ببائع رضا الله بقرابة" ويزيد "سعيد بن عامر" أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يجمع الله – عز وجل – الناس للحساب، فيجيء فقراء المؤمنين يزفون كما يزف الحمام، فيقال لهم: قفوا للحساب، فيقولون: ما كان لنا شيء نحاسب عليه... فيقول الله: صدق عبادي.. فيدخلون الجنة قبل الناس"... ومن لا يريد دخول الجنة قبل الناس؟
نفس الشيء بالنسبة لوزير الخارجية الإسلامي والذي تقلد سابقا مهمة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، هل يمكن أن يصدر عنه مثلا قرار استغلال وزارته الضخمة لتمكين أحد أفراد عائلته أن يصبح بين عشية وضحاها من أكبر الخبراء في مجال العلاقات الدولية ينظم اللقاءات بحضور رؤساء دول ووزراء ويفتي في السياسية الدولية للبلاد... هل هذا يمكن أن يقع اليوم أو غدا مع أحد أقرباء وزير الخارجية وهو الطبيب النفساني وخريج "دار الحديث الحسنية" والعارف بأمور الدين والدنيا وقرأ مرارا وتكرارا ما كان لا يفتأ الصحابي الجليل "أبو الدرداء" يقوله لمن حوله.
كان الصحابي "أبو الدرداء"، حكيم زمانه يقول: "ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند بارئكم، وأنماها في درجاتكم... وخير من الدراهم والدنانير ؟؟" ويسارع الناس بسؤاله: "أيُّ شيء هو.. يا أبا الدَّرداء..؟؟" فيجيبهم بإيمانه العميق وحكمته: "ذِكْرُ الله..ولَذِكْرُ الله أكبر"... أتخيل وزير الخارجية وهو الضالع في قضايا وأحكام وتاريخ الدين الإسلامي يرتعد وهو يتذكر الآية الكريمة «الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده» وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما قل وكفى، خير مما كثر وألهى"، فيحمد الله ويصلي ركعتين ثم يدلف إلى مكتبه للسهر بتفان وإخلاص على الدفاع عن المصالح الخارجية للوطن وليس على مصالحه الشخصية والعائلية، جاعلا من مقولة "أبي الدرداء" شعار له وهو القائل "لا تأكل إلا طيِّبًا.. ولا تكسب إلا طيِّبا.. ولا تُدخل بيتك إلا طيِّبًا".
إن ما سبق ينطبق عل كل الوزراء الإسلاميين الذين نهلوا من نفس المراجع والأدبيات كأطر شابة انخرطت في مسيرة "الصحوة الإسلامية"والذين عاشوا وعاشروا واستلهموا دروس المسيرة المحمدية منذ بداياتها مرورا ب"دار الأرقم بن الأرقم" إلى الهجرة ودخول مكة وكيف كان المؤمنون يزيدون ولا ينقصون وصاحب الرسالة يهتف فيهم صباح مساء : 'لا أملك لكم نفعًا، ولا ضرًّا...ولا أدري ما يُفعل بي ولا بكم"، وقرأوا عن التضحية بالغالي والنفيس من أجل الرسالة بالثبات والصبر والصدق والإيمان وأجمل ما قال معلمهم العظيم – ومعلم كل المسلمين- ، محمد رسول الله، لما اقترح عليه قريش الملك والذهب والجاه... قال:"..والله، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته".. والذي حين مناجاة ربه يتضرع إليه مبتهلا: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس..".
إنها الكوادر الإسلامية التي حفظت عن دهر قلب سور القرآن الكريم التي تعتبر كلها دروس وعبر ونصائح لكل زمان ومكان، ابتداء من فتنة الناس وامتحان قدرتهم على الصمود والإيمان والتضحية، في قوله تعالى «أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون»، كما في آية أخرى «ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين» وأيضا «ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب». وهم، الكوادر الإسلامية، المؤمنة بأن الرزق يؤتيه الله لمن شاء من عباده كما آتى من قبل مريم بنت عمران، «كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يمريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب»... فلا داعي لمد اليد لأموال وعرق الشعب...
يصعب الحديث في موضوع كهذا المتعلق بتحصين الذات من مصائب الدنيا وبلائها وإغراءاتها دون التطرق إلى ما كان يردده أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه فيما يخص اختيار من يتولاه على شؤون المسلمين: "أريد رجلا إذا كان في القوم، وليس أميرا عليهم بدا وكأنه أميرهم.. وإذا كان فيهم وهو عليهم أمير، بدا وكأنه واحد منهم.. أريد واليا، لا يميز نفسه على الناس في ملبس، ولا في مطعم، ولا في مسكن... يقيم فيهم الصلاة... ويقسم بينهم بالحق... ويحكم فيهم بالعدل... ولا يغلق بابه دون حوائجهم"...
ستقولون ذاك زمانا وهذا زمان... معكم الحق ولن أخالفكم الرأي... ستقولون أن ما ذكر ينطبق على كل مسلم... سأقول أيضا معكم الحق كل الحق... نعم، مطلوب من كل مسلم العمل لدنياه كأنه سيعيش أبدا ويعمل لآخرته كأنه سيموت غدا... ستقولون أنكم تعرفون الكثيرين من الذين يطبقون ما سلف... خبر مفرح وسعيد ونطلب من الله أن يكثر من أمثالهم... ستتساءلون إلى ماذا أريد أن أصل مما أسلفت ؟ ... سؤال وجيه وجواب بسيط.
لقد مر على تسيير حكومات وطننا الحبيب العديد من الوزراء والمسؤولين، سياسيين وتقنقراط، نساء ورجال، قادة وكوادر حزبية، علماء ودكاترة ومهندسين، ليبراليين واشتراكيين، قيل أن العديد منهم دخل المنصب الوزاري فقيرا خالي الوفاض وخرج منها غنيا ذو مال وجاه... هناك إجماع على كون الحكومات المتعاقبة على المغرب لم تحارب كما يجب الفساد بل أخرجت مفسدين... من اليمين ومن اليسار...هكذا يتحدث الشعب والصحافة... إلا من رحم ربك حتى لا نعمم ونفتري على كل الناس...
اليوم هناك لأول مرة في تاريخ المغرب حكومة يسيرها كادر إسلامي ووزراء من نفس التوجه السياسي.. جاءت على إثر ربيع عربي ومغربي شعاره الرئيسي محاربة الفساد... فالأنظار ستتجه عند نهاية الولاية الانتخابية إلى ما حققته هذه الحكومة من مكاسب اجتماعية واقتصادية ولكن أيضا وأساسا إلى معرفة هل استطاع الوزراء الإسلاميين تحصين أنفسهم والابتعاد عن إغراءات المنصب والاكتساب الحرام...
سينظر عامة الشعب إلى رئيس الحكومة ووزرائه وسيبحثون إن كانوا بالفعل لم يتغيروا ولم ينهزموا أمام غول الفساد، والشعب بفطرته يعرف أن أشرس المعارك ليست تلك التي نواكبها اليوم والمتجلية في الحرب العلنية على الحكومة الملتحية، بل المعركة الحقيقية هي تلك التي يتم التخطيط لها والتي لا تظهر للعيان حتى يقع الوزير في المحظور ويقال حينئذ حتى الوزراء الإسلاميين سواسية مثلهم مثل الآخرين يرفعون شعارات لكي يصلوا إلى مواقع الحكم وغرضهم هو الدفاع عن مصالحهم الشخصية... أولاد عبدالواحد كلهم واحد...
هذا هو الامتحان الحقيقي لرئيس الحكومة وحكومته... هل سينجح في تحصين وزراء حزبه أولا وكل الوزراء الآخرين ثانيا ؟... هل ستكون لديه الشجاعة لفضح وطلب إقالة أي وزير تم التأكد من تورطه في قضية فساد ؟ هل سيعمل رئيس الحكومة على تتبع حركات وسكنات الوزراء وتنبيههم عند الضرورة قبل سقوطهم في المحظور؟
إن تَحَصَّن الوزراء الإسلاميون وقاوموا الإغراء فسيمنحون درسا كبيرا وتاريخيا للشعب والوطن والتاريخ... وستكون بداية الإصلاح الحقيقي... وسيأتي قوم آخرون يكملون المشوار...