ولم يك َّ ف بلكاهية عن تكرار هذا المبدأ: "لا يمكن إدراك الحداثة إلا انطلاقا من تمثل القيم العتيقة".
وتبعا لهذه الر و ح أيضا سينجز أول تجربة للفن في الشارع، بتنظيمه معرضا كبيرا بساحة جامع الفنا الشهيرة، وذلك كما صرح هو ب نفسه ، "للتمكن من مواجهة بين عو ا لم فكرية لم تتح لها أبدا فرصة اللقاء". كانت تلك تجربة فريدة وغير مشهودة بالمغرب كان لها صدى هائل، بحيث تم َّ إدراكها باعتبارها بداية لدمق ْ رطة الفن بالمغرب بالرغم من أنها ظلت تجربة يتيمة.
ودائما بهدف منح طلبة المدرسة بع ْ دا عالميا في تعليمهم، استضاف بلكاهية فنان ين من قبيل: ديمترينكو، وسيزار، ولورسا. وقد خص َّ ص حينها الكثير من وقته للمدرسة، وتخلى عن الصباغة الزيتية على الورق بحيث أخذ عمله وجهة أخرى. وبدأ رحلة طويلة في صلب المادة لا تزال لحدّ اليوم تشك ِّ ل أحد الرهانات الهامة في أعماله. بيد أنه لن يتخلى أبدا عن الرسم على الورق. فعدا الكثير من دفاتر الرسم التي ي ُ راكمها الواحد تلو الآخر، فإنه يصمم أعماله دائما على الورق. و هو يقول عن الرسم:
"قيمة الرسم في التشكيل كقيمة الكلمة في الشعر".
ومن ثم فهو يشك ِّ ل في نظره المختبر الحقيقي لمخيلته.
وفي سنة 1965 ، سافر إلى ميلانو وأقام بها سنة ليتابع دروس أكاديمية بريرا. وهناك عاش بمونزا والتقى بفنانين من قبيل كاسطيلاني وكونوليس وكذا بونالومي وفونتانا.
وفي سنة 1972، جاءته دعوة رسمية من الولايات المتحدة، حيث زار معهد التكنولوجيا بميتشغان وانبهرأيضا بالمستوى العالي لمختلف المتاحف ومؤسسات الفن بها.
المواد المختلفة
النحاس
النحاس معدن مقد َّ س. وتشكل صفائح النحاس الأحمر أو الأصفر المث ْ نية والمطروقة والم ُ قو ْ لبة ثم المثب َّ تة على الخشب رحلة حقيقية في تخوم المادة. إنه تمجيد للمادة، وهوى آسر، وتواصل حار حيث تنبثق النتوءات من الثن ْ ي والل َّ وي المنجز باليدين فقط. فهذه الأشكال التي يتم قولبتها لا نحت ُ ها على النحاس تفجر الإطار الكلاسيكي للمستطيل والمربع لتنفث في الفضاء أشكالا غريبة تشكل الدائرة رهانها المركزي.
هذا العمل الذي دام اثني عشر عاما سيتوقف أيضا سنة 1974 ، حين قر ّ ر بلكاهية تر ْ ك إدارة مدرسة الفنون الجميلة. بي ْ د أن استكشافه لمختلف المواد التقليدية لم يفتر ْ .
الجلد
ي ُ ستعمل الجلد خاما، ثم ينظف ويُعالج وينشّف في الظل ليتم تم ْ ديده على أشكال من خشب يتم تقطيعها مسبقا. فهو، فضلا عن تكوينه البيولوجي، يفرض للتوّ العديد من الإكراهات. وأو َّ لها استعمال الملو ِّ نات الطبيعية الخالصة كالحناء، الذي يمنح سلما ثرّاً من تلاوين الأحمر والأسمر، والزعفران وقشرة الرمان اللذين يمنحانه اللون الأصفر، والكوبالت الذي يمنح سلما من الألوان من البنفسجي إلى الأسود والنيلة وأزرق الميتيلين. وبالرغم من أن مادة كالجلد تحيل بالضرورة على تقنيات تقليدية متصلة بالرِّقّ أو الوشم، فإن توظيف بلكاهية لها يفرض على متخيلنا تأجيل هذه المرجعية وتوجيه نظرنا نحو حداثة لا لب ْ س فيها. وإذا كان من الأكيد أن استيحاء معارف متصلة بمواد وتقنيات معينة تنتمي للتراث، فليس بأقل توكيدا أن ذلك يتم ُّ في أعمال بلكاهية تبعا لاشتغال مستديم للنسيان. ففي النسيان وانسحاب الرِّقّ يدخل اختيار الجلد ، لا في شكل اللوح الذي يحتفظ بصدى كل الآثار المنتمية إلى أزمنة سابقة أو مهارات أخرى، وإنما كانمحاء ومح ْ و أو "تغييب". إنه محو ٌ لا يترك المجال إلا لانبثاق فضاء جديد يتم ُّ فيه عيْش فعل الذاكرة والتذكر كإبداع أول ؛ غير أنه إبداع لا يعدم القوة المرجعية سواء كانت ثقافية أو دينية. فالجلد، باعتباره حد ّ ا فاصلا بين الطُّوية والبرّانية يغدو ، حين يُنظَّف ، مدىً رمزيا بحيث يصبح شارة وإشارة إلى الأمل. وما أن يتم تحريره من التعف ُّ ن حتى يبعدنا عن الموت ويبعد بصرنا عن استلاب الماضي.
الخاصيات العامة المتعلقة بالعمليات الإبداعية لفريد بلكاهية
الذاكرة
يمكننا القول بأن الذاكرة هي مبدأ العملية الإبداعية لدى فريد بلكاهية. فعدا كونه ي ت ََ موقع دائما بالعلاقة مع معالم استدلالية، سواء كانت ذات طابع تاريخي أو ثقافي، فإنه ملاحظ نشيط للتوافق بين العلامات سواء في المستوى الفني أو الاجتماعي أو الإثنولوجي. ف هو إذا كان في ما قبل جم ّ اعا كبيرا للأثاث المغربي والأبواب الأمازيغية، والزراب ي والحل ى والأواني الخزفية، فذلك أيضا ليلاحظ كيف تتحاور تلك العلامات في ما بينها وتتجاوب لتشكل مادة ثقافية فعلية تمكن من الإدراك الحقّ لأسس الحضارة المغربية.
يتمثل اشتغال النسيان لا في العمل على تبذير مادته الخام ذات الطابع التاريخي وإنما في إتاحة تواصل أكثر مرونة وإقناعا وثبوتا في صلب الحداثة نفسها، من حيث هي مرحلة تعاش قبل كل شيء باعتبارها تطورا زمنيا تتابعيا لا فقط باعتبارها خصوصية ثقافية.
أما العلامات الغرافية، كالس ّ هم والحلزون أو المثلث، فإن إحالتها إلى مرجعية أكثر كونية، وإضافتها إلى علامات تيفناغ وأمازيغية تسائل دائما ولا تزال الرهانات الكبرى، سواء منها المتعلقة بأصول الهوية أم بالمعالم الاستدلالية التاريخية والحضارية.
وتبعا لهذه الروح لم يكفَّ فريد بلكاهية عن تكريم رجالات العرب العظام والاحتفاء بهم كابن بطوطة أو مؤخرا بالشريف الإدريسي. فمعالمه الاستدلالية يمتحها أيضا وبالتأكيد من الغرب في مجال الفن المعاصر. وهكذا سيتأثر بدءا بجورج رُوو، قبل أن ي ُ عجب إعجابا كبيرا ببول كلي. وسوف يحتفي أيضا بطابييس وغاودي، ولكن أيضا بكتاب كبباشلار وشعراء كسان جون بيرس. كما أصدر كتبا مع العديد من الشعراء كأدونيس وصلاح ستيتييه، وعبد الوهاب المؤدب ورجاء بنشمسي. وإتيل عدنان، ونيكول دو بونتشارا وجان كلارانس لامبير. و اهتم بلكاهية أيضا بموسيقى الملحون وتولّع بها وأنجز سلسلة أولى عنها سنة 1980 ، وأخرى سنة 1994 . وانطلاقا من افتتانه بموسيقى الحض ْ رة في علاقتها بالإيقاع في الفضاء، سيشتغل على الطريقة الكناوية، وسينظم مع المعلم سام أمسيات خصوصية حتى يتمكن من ملاحظتها أكثر و يدرك أفضل ظاهرة الحضرة أو الوِجد.
النحت
في الغالب الأعم تكون منحوتات فريد بلكاهية هائلة وعملاقة. فحجمها يندرج في علاقة كونية شبه حلولية مع العالم والأشياء. والتصور الذي يؤسسها والذي لا يتغير إلا بشكل طفيف، يشغّل تقلبات النور والظل، بشكل مدروس ومحسوب في ساعة معينة من النهار. وبما أن تلك المنحوتات بميلاد رجل عظيم فإن المبدأ يتمثل في أن الظل المنعكس على الأرض والمثبت عليها، في تاريخ معين من السنة ، يطابق ظل المنحوتة نفسها.
فريد بلكاهية الرحالة
جال بلكاهية في مناطق عديدة من العالم في وقت مبكر ، بدءا بأوروبا الوسطى حيث زار العديد من القرى النائية مفتونا بتنوع ثقافاتها وحضاراتها.
وفي سنة 1957 كان من ضمن المسافرين على متن الباخرة مشيل أنجيلو التي انطلقت من مدينة الب ن دقية باتجاه الشرق الأوسط ومصر، حيث قام بزيارة عبد الكريم الخطابي، وكذا لبنان وسوريا والقدس ، التي كانت وقتها تحت إمرة الأردن، ثم سافر في ما بعد إلى بغداد حيث التقى ب الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي.
وانطلاقا من 1964 ، قام بعدة أسفار إلى إفريقيا جنوب الصحراء، وزار من بين مازاره السينغال، وساحل العاج، والداهومي، والنيجر، ومالي، الخ.
وفي 1978 ، سافر إلى الصين. وبما أنه وقع تحت أثر فحوى مقال لجان لاكوتير في جريدة لوموند عن القطار العابر لسيبيريا، فقد استقلّه في العودة منها.
وفي إطار الألعاب الأولميبة بسيول، د ُ عي بلكاهية للمشاركة فيها كنحات، ف ارتحل عبر البلاد مع فرقة مسرحية كورية مما مك َّ نه من التعرف على كنوز حي ّ ة عديدة ومتنوعة وخاصة على مسرحيي الكراكيز.
وبعدها سافر إلى أمريكا اللاتينية التي أدهشه فيها تشابه ثقافة شعب الإنكا مع أمازيغ الأطلس.
وبما أنه يهوى الصيد، فإنه لم يتردد في السفر إلى السينغال، وجزر السيشيل وطاهيتي.
وفي سنة 1980 ، قرر بناء دار بمعي َّ ة صديقه المهندس المعماري عبد الرحيم السيجلماسي. وفي هذه الفترة بالضبط التقى بالمعماري المصري حسن فتحي بتونس وأخبره بهذه التجربة.
وفي سنة 1990 ، اقترن بالكاتبة رجاء بنشمسي، ومن هذا الزواج رزق سنة 1993 ، بطفلة سمياها فانو.
|